Discover millions of ebooks, audiobooks, and so much more with a free trial

Only $11.99/month after trial. Cancel anytime.

ما لن يصدقه أحد: قصص قصيرة
ما لن يصدقه أحد: قصص قصيرة
ما لن يصدقه أحد: قصص قصيرة
Ebook206 pages1 hour

ما لن يصدقه أحد: قصص قصيرة

Rating: 5 out of 5 stars

5/5

()

Read preview

About this ebook

تغوص الكاتبة في مجموعتها القصصية التي تضم إحدى عشرة قصة، داخل أعماق النفس البشرية في محاولة لسبر أغوارها وما قد تخفيه بداخلها من عنف وقسوة أو مخاوف، وما قد ينشأ عنها من سلوكيات وتصرفات. تعتمد الكاتبة نزعة تحليلية وحوارا يجعل القارئ متورطا في الأحداث، باحثا عن ما ستكشف عنه أحداث القصة. وتتطرق الكاتبة عبر قصص المجموعة إلى قضايا اجتماعية مختلفة كالعلاقات الإنسانية والأسرية وتأثير التطور الذي تشهده الحياة الاجتماعية على الإنسان.
مشروع قلم
ما لن يصدقه أحد: قصص قصيرة

Related to ما لن يصدقه أحد

Related ebooks

Reviews for ما لن يصدقه أحد

Rating: 5 out of 5 stars
5/5

1 rating0 reviews

What did you think?

Tap to rate

Review must be at least 10 words

    Book preview

    ما لن يصدقه أحد - باسمة يونس

    -1-

    حكاية رجل هادئ

    لم يكن تعكير مزاجه بالسهولة التي يمكن بها تعكير مزاج أيّ رجل عاقل وحالم ومنطقي جداً مثله، فمن المحال التنغيص على شخص ليس فقط لأنه من برج الحمل المتصدر قائمة الأبراج الأكثر هدوءاً وسلاماً مع النفس والعالم، ولكن لأنه كان بعد تخرجه بدرجة الدكتوراه في علم النفس بامتياز قد مارس مهنته بحرفية واستمر في تعليم طلبة الجامعة وإجراء أبحاثه وتطوير معلوماته، إلى أن أصبح أستاذاً مشهوداً له في مجاله، وهذا يكفيه ليكون قدوة ومثالاً للآخرين في القدرة على التحكم بالغضب.

    لقد أثمرت شجرة مسيرته المهنية، عدا عن السُّمْعة الطيبة، عيادةً لمساعدة من ترديهم الظروف في حفر الأوبئة النفسية، ولم يقدم على هذه المغامرة إلا بعد أن رأى في نفسه القدرة على معالجة المرضى، إثر قيامه بكتابة مقال أسبوعي لدعم الآخرين ممن لا يزورون عيادات الأطباء النفسانيين لأي سبب، وهكذا وجد طريقة أخرى، عدا عن مهنته الأكاديمية، لمعالجة نفسيات المهزوزين والمقهورين والمضطهدين نفسياً، وتعزيز قدرته على ضبط النفس والتحكم في غضبه الإنساني أو الحيواني إذا صح القول، فكل ابن آدم وكل بنات حواء ممن يستسلمون أمام نوازع الغضب ينزلقون سريعاً فوق منحدرات الشيطان الآسنة، وينتهون إلى قيعان شديدة التلوث.

    كانت عبارته أو شعاره الذي يعلنه أمام كل شخص جديد يتعرف إليه للمرة الأولى: أن الإنسان الذي ينجو من كوارث الطبيعة بسهولة تصعب عليه النجاة من شرور الغضب، لأنها المعضلة الكبرى التي يقف وراءها شيطان رجيم!

    هذا هو رأيه الذي ظلَّ مؤمناً به وعاكساً له في كل مقال يكتبه وتنشره أهم صحيفة في بلده، وظل يفسر للقراء كيف توصل إلى فلسفة حياته، وكيف نسجها بطريقته الخاصة من خلال استثمار ما تعلمه في مجال مهنته علّ وعسى أن يلهمهم الصبر ومعنى التحكم بالنفس، وكيفية ضبط الأعصاب والنوازع أمام الشهوات أو الغضب.

    لقد تعلمَّ درْساً في أهمية ضبط النفس والسيطرة على الغضب بأكثر من تجربة شخصية، وهذا ما سمح له بامتلاك القدرة على التعبير عن معنى الهدوء النفسي شخصياً، وبرسم خريطة الطريق لمن فشلوا في التوصل إليه.

    وبدءاَ من تحوله من إنسان طبيعي يمكن أن يهتاج غضبه لأي سبب إلى أن أصبح نموذجاً جيّداً للآخرين ومُتعبِّداً في محراب الرضا والسعادة، استلهم من حكم الفلاسفة والعظماء معنى القناعة بعدم جدوى الغضب، ولماذا نجحوا في تخليد ذكراهم على مر الأزمنة والعصور، وأهم ما أنجزه في هذا الأمر كان قدرته على الاستعداد المسبق لمواجهة كل ما قد تضعه الحياة أمامه من شرور أو عوائق وعراقيل، والقفز عليها، وتخطيها، عدا عن شحذ قدرته العقلية والتدرب على حل إشكاليات الدنيا الطارئة وأزماتها المباغتة من دون تعقيد أو مماطلة، فتوّصل بذلك إلى نتائج مهمة على رأسها: أهمية الصبر، وفعالية كظم الغيظ، وشرف الارتفاع عن دنيويات الصراع الإنساني، والتوصل إلى الاستقرار والسعادة الاجتماعية وما يتمتع به من صحة نفسية رائعة.

    وخلال السنوات العشر الأخيرة من حياته لخّص مجموع القيم الحياتية والأفكار التي دأب على جمعها وتخزينها من كل من حوله وما حوله، كي ترتقي بعقله وتسمو بروحه إلى الأعلى في عبارة واحدة، يردفها دائماً في نهاية مقالاته الأسبوعية، وأسفل صورة العرض في حسابه على تطبيق «الواتساب»، ليعرف الجميع من خلالها بأنه قد خُلِق مُتفائلاً ومُتصالحاً مع ذاته، ولم يدرس علم النفس لمجرد الحصول على شهادة جامعية وممارسة مهنة تَدُرُّ عليه دخلاً جيِّداً بل كي يكون نموذجا رائعا للآخرين، يُدْرِكون من خلاله بأن «التفاؤل مصباح مضيء لمن أعتمت ظروفه».

    وهكذا، حققت له هذه العبارة شهرة لا بأس بها، بعد أن تداولها الجميع وأرفقوا اسمه في كعب الصورة المنشورة في معظم الحسابات الالكترونية والكتابات اليدوية، ورغم أنها شهرة لا تقترب ولو قليلاً من شهرة «غاندي» عبقري الإنسانية والتأمل وأستاذ القدرة على ضبط النفس، لكنه يرى نفسه أهم منه بكثير، لأنه لم يغضب ولو مرة واحدة إلى اليوم... هذا ما كان واثقاً منه تماماً!

    ولكن، وكما أن لكل إنسان نقاط ضعف ونقاط قوة، كان يعرف في قرارة نفسه المتسامحة والمتصالحة مع الذات أنه لا بد أن يأتي يوم سيواجه فيه هو، مثل أي شخص من الناس، موقفاً، أو أزمة غير متوقعة تستوجب ردة الفعل الحاسمة والقرار السريع، وحينها ستنبثق الشخصية الخفية التي كانت مدسوسة في العمق لتعلن عن نفسها كي تُسْهِم في حل المشكلة حلاً جذرياً وباتراً، وهذا الحل سيختلف بحسب ما ينغرس في الإنسان من مبادئ ومعتقدات منذ ولادته وإلى اليوم، فإمَّا أن يقضي على المشكلة تماماً أو يعقدها إلى أسوأ حد.

    وتختلف هذه الشخصية الخفية في طرقها للتعبير عن نفسها اختلافاً ملموساً عن الشخصية الأساسية الظاهرة أمام الناس، فهي في الأغلب ستكون صدمة مفاجئة مقارنة بالشخصية الخارجية المعروفة للجميع، وقد تقلب كل التوقعات وتسدد سهماً قاتلاً في البعض منها.

    وهكذا، وبناء على تلك الفلسفة، وعلى قناعته الخاصة، صار يعلم بأنه يمكن أن يكون بداخل كل إنسان شخص أكثر عقلانية وحكمة من ظاهره الطائش والمجنون أو يتحول في خضم الصدمة إلى تافه وسطحي رغم أنه معروف بكونه مثقفاً وعميقاً.

    والخلاصة، كما كان يقول، أن كلأً مناَّ يحيا بشخصيتين، الأولى هي التي يعرفها الجميع ويتعاملون معها دائماً، والأخرى من سينكشف عنها الغطاء ساعة الغضب، فتنبري مثل مصباح يلمع متأججاً في حلكة تلك الأوقات التعيسة. وليس الهدف من القصة شرح فلسفته العلمية أو النفسية، لكنها لمجرد تفسير عملي لردة فعل بطل القصة ومدى استفادته من دروسه في علم النفس، التي حقق انجازا هائلا فيها، ووهب منها بقدرته على السيطرة على نفسه والتحكم بغضبه... أليس أمراً مُلْهماً أن نعرف ماحدث لرجل هاديء مثله وكيف تصرف في وقت أزمة غير متوقعة؟

    لقد حدث أن اكتشف بأنه أضاع مفتاح الباب الرئيس لشقته، ولم يتمكن من تذكر إن كان قد وقع منه أو نسيه في مكان ما، ومنذ اللحظة الأولى التي اكتشف فيها ذلك لم يغضب أبداً ولم تغلِ أعماقه بثورة الغيظ والندم على ما حدث كعادة أي رجل في موقفه، بل ظل محتفظاً بهدوئه وصلابة موقفه تجاه قيمه الحياتية، لأن ضياع المفتاح كما يراه شخص عقلاني مثله، مجرد حادثة تافهة لا تستحق تدفق شحنات التوتر ولا التميز غضباً... كان يدرك بأن استنفاد طاقاته الجسدية ستنتهي به في عيادة طبيب للتحقق من استقرار ضغط الدم في جسده، وهو ما لن يجر نفسه إليه ولو ضاع المفتاح واختفى تماماً.

    وماذا يعني أنه لم يعثر على المفتاح في جيبه؟... ردد هذا لنفسه المتململة بينما أصابعه توغل في جيوبه عميقا، فلربما يكون قد تسلل عبر طيات الجيب واستقر في عمقه السحيق، وهذا أمر يتكرر حدوثه ويجب ألا يترك العنان لتلك الشخصية العصبية التي دفنها منذ زمن بعيد للتصرف بشكل عشوائي... لقد ماتت وقضي الأمر ولن ينبش قبرها من جديد.

    عاد يمد يده باحثاً عن المفتاح في كل مكان يُحْتَمَلُ أنَه استقر فيه، مُمَنّياً نفسه بأمسية مريحة بعد يوم حافل بالتعب، سيعثر على المفتاح ويدخل إلى شقته وينام ملء جفنيه، وهذا ما ظل يردده لنفسه حتى أصبحت كلماته مجرد صدى يرن في الخواء. لقد خذلته أمنياته التي سبحت في فراغ جيب جلابيته وتناثرت شظاياها في الهواء ولم يظهر المفتاح، ومع هذا ظل كما قرر منذ البداية متمسكاً بعروة صبره الفريد بكل عزيمة وثبات.

    عاد إلى مرآب العربات وغاص في دهاليز سيارته، «الهايونداي» الصغيرة والتي اشتراها بالتقسيط ولم ينته من تسديد ثمنها بالكامل إلى اليوم، لأنه كان يراها صفقة جيدة جداً، فما دام يستخدمها يومياً فقد نجح بذلك بتوفير مصاريف سيارات الأجرة، وإلى أن يسدد ثمنها من راتب لا يزال في علم الغيب فهو الرابح.

    غرز يده في كل زاوية، حتى تلك المرصوصة بعناية ولا يمكن العبث مع ضيقها عسى أن يكون المفتاح قد انسل من جيبه وانحشر بين ثنيات المقاعد المرصوصة بإحكام، ولماَّ لم يجده في السيارة أو في الممرات أو في أي مكان يمكن أن يتسلل إليه، أيقن بأنه أخطأ عندما ظل يؤجل تعويض فقدان السِّلْسِلة التي كان يعلق فيها المفتاح وانقطعت أوصالها منذ شهر، ولأنه المخطيء فلن يغضب وسيبقى هادئاً متمسكاً بعصا الصبر، الذي سيبقى دائماً وأبداً علاجاً حاسماً لاحتقانات المواقف الصعبة المشابهة.

    وهكذا ظل محتفظاً برسوخه وارتكازه على الهدوء بكل ثبات... صحيح أنه ندم كثيراً على تباطؤه في شراء حلقة تعليق المفتاح، ولطم صدغه مؤنبا حماقته لكنه استعاد هدوءه بسرعة مصمماً على شعاره بعدم اتاحة الفرصة للشيطان للتسلل إلى أعماقه وايقاظ ذلك المدفون فيها، فالشيطان مفسد الناس بلا منازع.

    ولأنَّ المشكلة الأولى تكمن في أنه لا يملك نسخة أخرى من المفتاح، والثانية في كونه لم يكتشف ضياعه إلا بعد أن وصل أخيراً إلى العمارة التي يسكن فيها، ووقف أمام باب شقته الكائنة في الطابق السابع، لم يعد من حل أمامه سوى أن يتوجه إلى مكتب صاحب العمارة، مُطالبا إياه بنسخة من المفتاح الضائع.

    إنها أشياء تافهة لا تستحق أن يفقد صبره عليها أو يسمح لشخصيته الخفية بالخروج من عمق الصمت لحلها أو تعقيدها بل سيتشبث

    Enjoying the preview?
    Page 1 of 1